الشيخ سعود الشريم
دروس وخواطر من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم
الخطبة الأولي :
الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما تبغى أن يحمد ، وصلى الله وسلم على أفضل المصطفين محمد، وعلى آله وصحبه ومن تعبد .
أما بعد :
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، فبتقوى الله عز وجل تجتمع الكلمة، وتتم النعمة، وتتجلى الحكمة .
أيها المسلمون : إن في دنيا الناس، ذكريات لا يمل حديثها، ولا تسأم سيرتها، بل قد تحلو أو تعلو إذا أعيدت وتكررت، كما يحلو مذاق الشهد وهو يكرر، ومن الذكريات التي لا يمل حديثها، ولا تسأم سيرتها، حياة محمد صلى الله عليه وسلم إمام البشرية، وسيد ولد آدم فهي من الذكريات الغوالي، التي تتجدد آثارها وعظاتها، كلما سلك المرء سبيله إلى الاعتبار واالإدكار، والعبد المؤمن إذ يغشى معالم سيرته صلى الله عليه وسلم فهو كعابد يغشى في مصلاه، ومن حسن حظ المؤمن، أنه ما قلب سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يوماً فأخطأ دمع العين مجراه، وفي أيام محمد الجليلة النبيلة أيام خوالد، ما تزال تتضوأ على الأيام. وتتألق في غرة الزمان، ولعل من أسطعها وأروعها، هو يوم الهجرة، الذي تهب علينا نسمات ذكراه، في كل عام من أعوام الزمن، ومن شواهد عظم حادث الهجرة أنه يزداد بهاء وسناء كلما تناوله العرض والبحث، كالذهب الإبريز، كلما عرضته على النار لتمحصّه، إزداد إشراقاً وصفاء، وهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم كانت فاتحة الأمل، وبارقة النصر، وطريق العودة له ولأصحابه إلى مكة فاتحين ظافرين، كما قال تعالى : { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } . [ سورة القصص ، الآية : 58] يعني إلى مكة .
عباد الله : إننا هنا، نعرض لمحات من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ن في الوقت الذي يشهد فيه المسلمون نكبات وويلات، تعصر قلوبهم، وتمزق صدورهم، وأمتهم وعقيدتهم وحرماتُهم ومقدساتهم، تستصرخ ولا مجيب، وتطالب المسلمين بتضحيات وفداء وبذل. والهجرة النبوية، تعطينا في هذا المجال، قدوة وأسوة، تتجلى دروس ودروس، من التضحية والفداء والبذل، فهذا رأس الأمة، وإمام الملة صلوات الله وسلامه عليه يتحمل العبء الثقيل، في سبيل الدعوة إلى الله ، وإعلاء كلمته، ويشتط المجرمون من أعدائه في مقاومته، والتطاول عليه بالسخرية والاستهزاء، ثم بالكذب والإفتراء، ثم بحيلة الوعد والإغراء، ثم بتسليط الغوغاء والسفهاء، ثم بالتآمر الدنيء، ينتهي إلى الإجماع على اغتياله بلا إرعواء { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } [ سورة الأنفال ، الآية : 30].
أيها المسلمون :
لما رأي المشركون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزوا، وخرجوا بالذراري والأطفال، وساروا بهم إلى المدينة، خافوا خروج رسول الله صلىالله عليه وسلم إليهم، ولحوقه بهم، فاشتد عليهم أمره، ولم يبق بمكة من المسلمين، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنهم وخلا من اعتقله المشركون كُرهاً، فلما كانت ليلة، هم المشركون بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء جبريل بالوحي من عند الله تبارك وتعالى، فأخبره بذلك، وأمره ألا ينام في مضجعه تلك الليلة . وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر نصف النهار، في ساعة لم يكن يأتيه فيها ، فقال له : (أخرج من عندك) فقال إنما هم أهلك يا رسول الله ، فقال : (إن الله قد أذن لي في الخروج ، فقال أبوبكر : الصحبة يارسول الله ؟ قال نعم ، فقال أبوبكر ، فخذ بأبي وأمي إحدى راحلتي هاتين فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذها بالثمن) .
وأمر علياً أن يبيت في مضجعه تلك الليلة، واجتمع أولئك النفر من قريش، يتطلعون من صير الباب ويرصدونه، ويأتمرون أيهم يكون أشقاها، فخرج رسول الله صلى الله عليهم وسلم فأخذ حفنة من البطحاء، فجعل يذروه على رؤوسهم وهم لا يرونه وهو يتلو { وجعلنا من بينا أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون } [ سورة يس ، الآية : 9 ] ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر، فخرجا من خوخة في داره ليلاً ، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى غار ثور فدخلاه، وضرب العنكبوت على بابه، وجدت قريش في طلبهما وأخذوا معهم القافة، حتى انتهوا إلى باب الغار فوقفوا عليه، فقال أبوبكر، يا رسول الله، لو أن أحداً نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أبا بكر ما ظنك باثنين ، الله ثالثهما".
ولما يئس المشركون من الظفر بهما، جعلوا لمن جاء بهما دية كل واحد منهما فجد الناس في الطلب، فلما مروا ببني مدلج ، بصر بهم سراقة بن مالك فركب جواده وسار في طلبهم ، فلما قرب منهم سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فساخت يدا فرسه في الأرض ، ثم قال سراقة، ادعوا الله لي، ولكما علي أن أرد الناس عنكما، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق، ورجع يقول للناس : قد كفيتم ما ههنا.
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره ذلك بخيمة أم معبد ، فقال عندها، ورأت من آيات نبوته في الشاة وحلبها لبناً كثيراً في سنة مجدبة، ما بهر العقول صلوات الله وسلامه عليه .
وقد كان بلغ الأنصار مخرجه صلى الله عليه وسلم من مكة، وقصده المدينة، وكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة، ينتظرونه أول النهار، فإذا اشتد حر الشمس، رجعوا على عادتهم إلى منازلهم ن فلما كان يوم الإثنين، ثاني عشر ربيع الأول، على رأس ثلاث عشرة سنة من النبوة، خرجوا على عادتهم، فلما حمى حر الشمس رجعوا، وصعد رجل من اليهود على حصن من حصون المدينة لبعض شأنه، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فصرخ بأعلى صوته، يابني قيلة هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدكم الذي تنتظرونه، فبادر الأنصار إلى السلاح ليتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت الرجة والتكبير وكبر المسلمون فرحاً بقدومه، وخرجوا للقاء فتلقوه، وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله، والسكينة تغشاه، وجاء المسلمون يسلمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم لم يروه بعد، وكان بعضهم أو أكثرهم ، يظنه أبا بكر، لكثرة شيبه، فلما اشتد الحر، قام أبو بكر رضي الله عنه، بثوب يظلل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحقق الناس حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم .
بذلك كله أيها المسلمون يتضح موقف هو أعظم المواقف، التي وقفها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضد العدوان فغير به مجرى الأحداث، وضيع على خصومه فرصة الانتقام، وأحبط مسعاهم، وبلبل أفكارهم، وأسفر عن مبلغ تأييد الله له ، وحمايته من كيد الكائدين ، وبطش الظلمة الجاحدين .
أيها الناس : بمثل هذه السيرة العطرة ، تتجلى الخواطر ، لننهل منها دروساً عظيمة. عميقة الدلالة، دقيقة المغزى ، بعيدة الأثر في نفوس الكرام من أبناء الملة . ومن واجب المسلمين أن يحسنوا الانتفاع بها ، عن طريق التذكر المفضي إلى العمل بها { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } [ سورة ق، الآية : 37 ] ومهما تتبار القرائح، وتتحبر الأقلام، مسطرة فوائد الهجرة، فستظل جميعاً كأن لم تبرح مكانها، ولم تحرك بالقول لسانها، وقد يعجز عن حصرها كثير من الناس . قال شيخ الإسلام، الإمام محمد بن عبد الوهاب - المجدد لما اندرس من معالم الإسلام رحمه الله تعالى - قال في حادث الهجرة : ( وفيها من الفوائد والعبر ما لا يعرفه أكثر من قرأها ) . انتهى كلامه رحمه الله .
ولعل من أبرز الدروس المستقاة من حادث الهجرة ، هو أن صاحب الدين القويم والعقيدة الصحيحة، ينبغي الا يساوم فيها، أو يحيد عنها، بل إنه يجاهد من أجلها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وإنه ليسستهين بالشدائد والمصائب - تعترض طريقه عن يمين وشمال - ولكنه في الوقت نفسه، لا يصبر على الذل يناله، ولا يرضى بالخدش يلحق دعوته وعقيدته .
ويلوح لنا في حادث الهجرة خاطر آخر، يتعلق بالصداقة والصحبة، فالإنسان في هذه الحياة لا يستطيع أن يعيش وحيداً منفرداً ، بل لا بد من الصديق يلاقيه ويناجيه ويواسيه، يشاركه مسرته، ويشاطره مساءته. وقد تجلت هذه الصداقة والصحبة في تلك الرابطة العميقة التي ربطت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر رضي الله عنه .
لقد أصبحت علاقات الكثيرين من الناس في هذا العصر، تقوم لغَرَض أو لعَرَض ، وتنهض على رياء أو نفاق، إلا من رحم الله، والأمة المسلمة اليوم أحوج ما تكون إلى عصبة أهل الخير، التي تتصادق في الله، وتتناصر على تأييد الحق، وتتعاون على البر والتقوى { الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } [ سورة الزخرف ، الآية : 67] .
وخاطر ثالث يتجلى من ذكر هذه الحادثة، وهو أن الله ينصر من ينصره، ويعين من يلجأ إليه ويعتصم به ويلوذ بحماه، و لايكون ذلك إلا للمؤمن المخلص، الموقن بما عند الله ، حين تنقطع به الأسباب، وحين يخذله الناس، وبعض الأغرار الجهلاء يرون مثل ذلك فراراً وانكساراً ، ولكنه -في - الحقيقة- كان عزاً من الله وانتصاراً { إلا تنصروه فقد نصره الله} .. سورة التوبة/ الآية 40.
وبم نصره الله ؟ نصره بأضعف جنده {وما يعلم جنود ربك إلا هو} [ سورة المدثر ، الآية :[31 ] نصره بنسج العنكبوت [ قصة العنكبوت حسنها الحافظ ابن حجر رحمه الله ، انظر زاد المعاد بتحقيق الأرناؤوط ] {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون } [ سورة العنكبوت ، الآية : 41] .
وخاطر رابغ ، يشير إلى أن الشاب إذا نبتوا في بيئة الصلاح والتقوى، نشأوا على العمل الصالح، والسعي الحميد ن والتصرف المجيد ، والشباب المسلمون إذا رضعوا رحيق التربية الدينية الكريمة ، كان لهم في مواطن البطولة والمجد ، أخبار وذكريات . فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يتردد في أن ينام على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو يعلم أن سيوف المشركين تستعد للا نقضاض على النائم فوق هذا الفراش، ويتغطى ببردته، في الليلة التي اجتمع فيها شياطين الكفر والغدر، ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويا لها من نومة تحيطها المخاوف والأهوال ، ولكن { فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين } [ سورة يوسف ، الآية : 64]
أيها المسلمون : هكذا تعطينا الهجرة اليوم ما يعظنا في حاضرنا، وينفعنا في أولانا وأخرانا، وهناك اليوم في أرجاء المعمورة أخوان لنا مهاجرون مسلمون ، أرغموا على ترك ديارهم وأوطانهم، بعد أن فعل بهم الكفرة الأفاعيل، وبعد أن تربصوا بهم الدوائر، ووقفوا لدعوة النور في كل مرصد ، يقطعون عليها الطريق، ويعذبون العذاب الشديد ، لا لشيء إلا لأنهم قالوا ربنا الله ، فهاجروا كرهاً ، وأخرجوا كرهاً ، فهم يهاجرون من موطن لآخر ، إقامة لدين مضطهد ، وحق مسلوب في فلسطين ، وفي البوسنة والهرسك ، وفي كشمير ، وإريتريا ، وغيرها من بلاد المسلمين .
فاتقوا الله أيها المسلمون ، وقفوا وققفة المهاجر بنفسه، وإن لم يهاجر بحسه ، فلنهاجر إلى بلاد الله تعالى بقلوبنا وعقولنا وأعمالنا ولنلجأ إلى الله ليكون ناصراً ومؤيدنا { إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون } [ سورة آل عمران ، الآية : 160 ] .
الخطبة الثانية الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، كما يحب ربنا ويرضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله وأصحابه ، ومن سار على طريقه إلى يوم الدين .
أما بعد :
فيا أيها الناس : لقد كان ابتداء التاريخ الإسلامي الهجري، منذ عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، حيث جمع الناس إبان خلافته، فاستشارهم من أين يبدأ التاريخ ، فقال بعضهم يبدأ من مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال بعضهم يبدأ من بعثته ، وقال آخرون يبدأ من هجرته، وقال بعضهم يبدأ من وفاته، ولكنه رضي الله عنه رجح أن يبدأ من الهجرة ، لأن الله فرق بها بين الحق والباطل، فجعل مبتدأ تاريخ السنين من الهجرة، ثم تشاورا من أي شهر يبدؤون السنة فقال بعضهم من ربيع أول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة، واتفق رأي عمر وعثمان وعلى رضي الله عنهم على ترجيح البداءة بالمحرم لأنه شهر حرام ، ويلي ذا الحجة ، الذي به تمام أركان الإسلام وهو الحج .
فعلينا جميعاً أيها المسلمون ، أن نأخذ بالتاريخ الهجري ، فأعداء الله حريصون على أن يمسخوا الأمة المسلمة في كل شؤونها ، حتى في تسمية الشهور والأعوام وإن استبدال تاريخ الكفار بالتاريخ الهجري عدول عن طريق السوي ، والمسلك القويم ، وتشبه بالكفرة والمشركين ، والمشاركة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة في الأمور الباطنة، على وجه المسارقة والتدرج الخفي، والمشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن ، فتكون محرمة ، كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رخمه الله .
هذا وصلوا رحمكم الله على خير البرية ، وأزكى البشرية